أسس بناء المنهج المدرسي "الجزء الثاني"

أسس بناء المنهج المدرسي "الجزء الثاني"

كنا قد تناولنا في المقالة السابقة والتي بعنوان " أسس بناء المنهج المدرسي (الجزء الأول)"، والتي فيها ناقشنا أهمية دور التحول العالمي في تطوير المناهج المدرسية، منتقلين بعد ذلك إلى المحور الأساسي للمقالة، وهو تصنيف أسس بناء المنهج المدرسي، وهو على النحو التالي: الأسس الفلسفية للمنهج، الأسس المعرفية للمنهج، الأسس النفسية للمنهج، الأسس الاجتماعية والثقافية للمنهج. ثم تناولنا -تفصيليًا- الأساس الأول لبناء المناهج المدرسية، وهو الأساس الفلسفي، والذي يشرح أشهر الفلسفات التي أثرت في بناء المناهج الدراسية: الفلسفة المثالية (التقليدية)، الفلسفة الواقعية، الفلسفة البراجماتية (التقدمية/ العملية)، الفلسفة التجديدية، الفلسفة الإسلامية. 

ولكن - بادئ ذي بدء- لا بد أن نذكركم بإشارة العديد من علماء المناهج إلى أن "بناء" منهج مدرسي لا ينفصل أبدًا عن الأيديولوجيات التي تقود إنشاء المناهج. وهذا بدوره يطرح عليك بعض الأسئلة الأساسية التي يجب عليك وضعها في الاعتبار: 

  • لماذا تقوم بتطوير منهج مدرسي معين؟ 

  • لمن هذا ولأي غرض يخدم؟

  •  من يستفيد من هذا المنهج؟ 

وهذه الأسئلة -في الواقع- أكثر تعقيدًا بكثير مما قد تفترضه في البداية. وهو ما نتمنى أن نجيب عليها في مقالات قادمة لنا إذا شاء الله.

واستكمالًا لما بدأناه في المقالة السابقة، إليكم الجزء الثاني والأخير من قائمة أسس بناء المنهج المدرسي، والمقتبس من كتاب: "مقدمة في علم المناهج التربوية"، بقلم كل من: د. محمد عبد الله الحاوري، و د. محمد سرحان علي قاسم. 

أسس بناء المنهج المدرسي

أولًا: الأسس الفلسفية للمنهج: شُرِحت سابقًا، يمكنكم الاطلاع عليها من هنا: الرابط

 ثانيًا: الأسس المعرفية للمنهج: 

ترتبط الأسس المعرفية بالأسس الفلسفية ارتباطًا وثيقًا وتتأثر بها، ولذا تختلف النظرة إلى المعرفة باختلاف الفلسفات من حيث: طبيعتها، وطرق الحصول عليها، وبنيتها، وأسلوب تنظيمها، ووظائفها. وتؤثر الأسس المعرفية بدرجات متفاوتة على تحديد مجال المنهج وتخطيطه وتنفيذه.

تصنيف المعرفة: توجد وجهات نظر متعددة حول تصنيف المعرفة، فصنفها فینکس (Phinix) إلى عدة مجالات هي:

  • المعرفة الرمزية؛ مثل: اللغات والرياضيات والمنطق. 

  • المعرفة التجريبية؛ مثل: العلوم الاجتماعية والطبيعية.

  • المعرفة الجمالية؛ مثل: الفنون والآداب.

  • المعرفة الأخلاقية؛ وتعني بالأخلاق والدين. 

  •  المعرفة الشخصية؛ وتشمل المفاهيم الخاصة المشتقة من مجالات الأدب والفلسفة والتاريخ. 

إجمالي النظرة الإسلامية إلى المعرفة:

 أما النظرة الإسلامية إلى المعرفة فقد جاءت شاملة كاملة متوازنة، ويمكن إجمالها بالآتي: 

  •  قسمت العلم إلى: علم فرض عين وهو ما لا يسع أحد جهلة، ويجب أن يعلمه كل مكلف كفرائض الإسلام القولية كالنطق بالشهادتين، والقلبية كالإيمان بالله تعالى وبقية أركان الإيمان، والبدنية كالصلاة وغيرها من الفرائض البدنية. 

  • وقسمته كذلك إلى: علم فرض كفاية وهو ما يحتاجه المجتمع من العلوم الكفائية التي يأثم المجتمع بعدم قيامها أو عدم الكفاية من الحاجة فيها، وإذا قام بها البعض الذي يسد الحاجة سقط عن الباقين الإثم، كعلوم الطب والهندسة والتربية وغيرها.

  •  اشتهر في الفكر الإسلامي تقسيم العلم والمعرفة إلى نقلية وعقلية، وقد يُوهم هذا التقسيم بالتعارض بين العقل والنقل، والحقيقة أنه لا تعارض بينهما ومن ادعى التعارض، فالتعارض في فهمه هو. 

  • فالعقل له حدوده ومجالاته التي يظهر سلطانه فيها، وتبرز إمكانياته في التعامل معها، ولكنه خادم للنقل، وكل حقيقة توصل إليها العقل لا تعارض للنقل، لأن الذي خلق العقل هو الذي أوحي بالشرع (النقل)، {أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ ۝١٤}، سورة الملك.

  • وأمر آخر في نظرة الإسلام إلى المعرفة يتميز بها المنهج الإسلامي دون سواه، وهي اعتبار وجوب التعليم ، قال رسول الله ﷺ: "بلغوا عني ولو آية" رواه البخاري، وقال رسول الله ﷺ: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

  • والمنهج الإسلامي يراعي الترتيب المنطقي للعلوم فيبدأ بالأهم فالمهم، والضروريات قبل الحاجيات وبالحاجيات قبل التحسينيات، مستوعبًا لكل الوسائل التي تخدم المعرفة ولا تتعارض مع الشرع. 

مصادر اكتساب المعرفة: 

  1.  الوحي (قرآن وسنة): وهو أعلى المصادر، وأصدقها، قال تعالى: {أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ ۝١٤}، سورة الملك. وقال الله تعالى: {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } (140)، سورة البقرة.

  2. الحواس الخمس: وما يتلقفه الإنسان بواسطتها من معارف وأحكام. 

  3. العقل: بالتأمل والاستنتاج وباستخدام الحواس، بالبحث والتجريب والحدس والكشف والتنقيب.

 ثالثًا: الأسس النفسية للمنهج:

 إن العناصر الأساسية التي يتكون منها مفهوم الأسس النفسية للمنهج متعددة، أهمها ما يلي: 

  •  معرفة طبيعة عملية التعلم والتعليم.

  •  معرفة طبيعة المتعلم وخصائص المتعلمين، وشروط التعلم في كل مرحلة من مراحل نموهم.

مفهوم التعلم:

 يُعرف بعض الباحثين التعلم بأنه: 

  • تغيير مؤقت أو دائم أو مؤقت في السلوك.

كما يُعرف بأنه: 

  • تغير شبه دائم في أداء المتعلم نتيجة ظروف الخبرة والممارسة والتدريب. 

ويُشَار إليه في علم النفس التربوي بأنه: 

  • تغير دائم نسبي يحدث عمدًا أو عفويًا. 

وفي الواقع فإن أبسط تعريف له هو: 

  • إن التعلم هو ما يبقى في الذهن أو يؤثر في الأداء بعد زوال الموقف التعليمي بوقت طويل.

  •  ويقع التعلم في القلب من العملية التعليمة، وهو لُب العملية التربوية كلها، ولهذا فالتعلم هو النقطة البؤرية للمعلم ولتدريسه

  •  ويهتم علماء النفس بالتعلم ودراسته لسببين أساسيين:  

  • السبب الأول: أن التعلم مركز القلب من كل نظرية سيكولوجية.

  •  أما السبب الثاني: أن معظم السلوك البشري ناتج عن التعلم.

خصائص التعلم 

 ويقدم (ملوكاو) تسع خصائص للتعلم، وهي:

  1.  التعلم هو تعديل مستمر للسلوك. ويستمر خلال الحياة. 

  2. التعلم إثراء، فهو يثري كل جوانب الحياة البشرية. 

  3. يتضمن التعلم الشخص ککل، اجتماعيًا، وانفعاليًا، وعقليًا. 

  4. التعلم عادةً هو تغير في تنظيم السلوك. 

  5. التعلم تطوري. 

  6. التعلم استجابي للحوافز. في معظم حالات الحوافز الموجبة، مثل : المكافأة يكون أكثر فعاليةً من الحوافز السالبة، مثل: العقاب.

  7.  يهتم التعلم عادةً بالأهداف، ويمكن التعبير عن هذه الأهداف في إطار السلوك المشاهد. 

  8.  يرتبط الميل والتعلم ارتباطًا موجبًا، فيتعلم الفرد أفضل الأشياء التي يميل إلى تعلمها. فمثلًا نجد معظم الأولاد تتعلم كرة القدم أسهل من تعلم الكسور في  مادة الرياضيات.

  9. يعتمد التعلم على الاستعداد والدافعية، وفي بعض الأحيان، يجب أن يسبق النضج البدني التعلم، حيث يتعلم الطفل المشي عندما يكون قادرًا بدنیًا وعندما يكون راغبًا في المشي. 

مفهوم التعليم: 

  • ويُعرف التعليم بأنه: طرق عديدة يستخدمها المعلم لتقديم المادة العلمية للطلبة والمتعلمين بقالب ملائم لاستعداداتهم وحاجاتهم واهتماماتهم. 

  • وتتضمن عملية التعليم كل المصادر اللازمة لشرح المادة العلمية نظريًا وعلميًا، وكل الوسائل التقنية المساعدة على ذلك. 

  • والتعليم والتعلم هما عنصران أساسيان في أي موقف تعليمي تعلمي، فلا بد في أن يعتمد بناء المنهج المدرسي على تصور صحيح للنفس الإنسانية للمتعلم، ويُستلهم هذا التصور من القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويستفيد من كلما أسفرت عنه الدراسات والبحوث النفسية المتعلقة بعمليتي التعليم والتعلم، وبالذات ما يتعلق بطبيعة الإنسان، ونظريات التعلم، وخصائص النمو الإنساني.

تعريف النمو: 

 يُشير مصطلح النمو إلى تلك التغيرات التي يمر بها الفرد منذ ولادته في جميع جوانب شخصيته: جسميًا، وعقليًا، وانفعاليًا في نظام متعاقب متفاعل، بهدف الوصول إلى نضج الإنسان واكتمال شخصيته.  

الخصائص العامة للنمو الإنساني 

ومن أهم الخصائص العامة للنمو الإنساني: 

  1. أنها عملية مستمرة تتأثر بالخصائص البيئية والوراثية.

  2. أنها متدرجة تمر عبر مراحل، لكل مرحلة خصائصها ومتطلباتها واحتياجاتها. 

  3.  الأصل فيها أن تكون عملية شاملة متكاملة تشمل الأبعاد الرئيسية في الإنسان: (الجسدية والنفسية والعقلية والانفعالية والاجتماعية) تتكامل فيما بينها. 

  4. وأنه توجد فروق فردية بينية ( بين شخص وآخر)، وفروق ذاتية، أي: قدرة أكبر للنمو في جانب أكثر من الجانب الآخر في الشخص نفسه، كأن يكون لديه قدرة في اللغة أفضل من قدرته في العلوم الطبيعية مثلًا. 

أهمية الأسس النفسية في بناء المنهج: 

تتضح أهمية الأسس النفسية في بناء المنهج من خلال الاستفادة من نظريات التعليم والتعلم الحديثة، التي ركزت على المبادئ والأسس التالية:

  • الدور الإيجابي للمتعلم في عملية التعلم.

  •  أهمية استخدام التعزيز والإثابة في تنظيم التعلم.

  •  الانطلاق من حاجات المتعلمين وميولهم وقدراتهم في اختيار الأهداف وطرائق التعلم.

  •  التنوع في مصادر التعليم.

  • استخدام أساليب الاستكشاف والاستطلاع والاستدلال الاستقرائي والاستنتاجي في تنظيم التعلم والتركيز على ممارسة التفكير بأنماطه ومستوياته المختلفة لا للتعلم.
    التركيز على توفير فرص التفاعل النشط مع عناصر التعلم بصورة أفضل. 

  • توفير الفرصة للمتعلمين لاختيار ما يناسبهم من الخبرات التعلمية وفق قدراتهم واحتياجاتهم بما يضمن لهم تفريد التعليم من خلال البدائل المتنوعة.

  • توفير فرص التعلم والتدريب في مواقف تعليمية تعلمية متنوعة، تزيد من احتمالات استبقاء التعلم وتذكره واستخدامه وتوظيفه (انتقاله) وتقاوم آلية النسيان والعجز عن الإفادة مما تعلم، وتطبيقه في المواقف الحياتية المختلفة.

  •  الاهتمام بالمفاهيم والمبادئ في التعلم.

  •  توظيف نظريات التعلم المختلفة في تعلم المفاهيم والمبادئ والاتجاهات والمهارات العقلية والحركية. 

  • الالتزام بالدور التوجيهي للمعلم باعتباره منظمًا للتعلم وميسرا له، وليس باعتباره مصدره الأوحد.

رابعًا: الأسس الاجتماعية والثقافية للمنهج: 

ترتبط الأسس الاجتماعية الثقافية بطبيعة المجتمع وحاجاته المختلفة، وظروفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بقيم المجتمع وعقيدته وعاداته وتقاليده.

 مفهوم الثقافة:

إن مفهوم الثقافة مفهوم معقد وواسع ومتشابك بحيث لم يعد ممكنًا التعامل معه على أنه موضوع مستقل بذاته. وترجع صعوبة التحديد العملي الدقيق لهذا المفهوم إلى تداوله في حقول معرفية متعددة، مما خلق له نوعًا من الاستقلالية النسبية في كل حقل من هذه الحقول، وسبَّبَ في الوقت ذاته تشابكًا في المفهوم، وانتماءً يصعب الحد منه لأكثر من حقل معرفي تبعًا لحقل التطبيق والتنظير المستخدم لهذا المفهوم. ونظرًا لأهمية مفهوم الثقافة، فقد حاول كثير من علماء الاجتماع وما زالوا يحاولون تعريفها وتحديد مفهومها.

 وتُعرّف الثقافة بأنها: 

"كل القيم والاعتقادات والعادات والفنون والجوانب العلمية واللغة والمؤسسات الاجتماعية التي يتميز بها مجتمع معين؛ لذا تمثل الثقافة الجانب المعنوي من المجتمع على عكس الحضارة التي تمثل الجانب المادي منه".

تصنيف الثقافة

وتُصنف الثقافة في ثلاثة مستويات، هي:

  1.  العموميات: ويُقصد بها العناصر الثقافية المشتركة بين جميع أفراد المجتمع، مثل: الدين، واللغة، ونحوها..

  2.  الخصوصيات: وهي العناصر الثقافية التي تخص جماعة داخل المجتمع، کالأطباء أو العمال. 

  3.  بديلات الثقافة: وهي عناصر ثقافية لا تنتمي إلى العموميات أو الخصوصيات، وهذه العناصر إما أن يتقبلها المجتمع فتدخل ضمن العموميات أو الخصوصيات الثقافية، أو يرفضها فتذيل وتموت. وتمتاز بديلات الثقافة عن العموميات والخصوصيات بأنها تُقدم اختیارًا بينها وبين عموميات الثقافة أو خصوصياتها؛ لذا فإن على المناهج أن تقوم بدور أساسي في تقديم البديلات المرغوبة. 

وأخيرًا الآن، وبعد أن انتهينا من مقالتنا، حان وقت التفكير. كونك معلم، هل سبق لك أن فكرت في تجاربك التي يمكنك من خلالها شرح الأساس الرئيسي للمنهج المدرسي؟

لذا، حاول أن تسأل نفسك الأسئلة التالية:

  • لماذا يجب عليك تدريس التاريخ أو الفلسفة أو علم النفس أو حتى مواد التربية البدنية في المدرسة؟

  • لماذا تقوم وزارة التعليم بتطبيق المناهج الدراسية من رياض الأطفال حتى المرحلة الثانوية في دول وطننا العربي، كالمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وعمان، والعراق، وقطر، وليبيا، والكويت، وحتى مصر، والمناهج فيها قائمة على اللغة الأم (اللغة العربية)؟

  • لماذا يوجد اندماج مؤسسي مدرسي؟

  • لماذا هناك حاجة إلى تعليم عالي معولم في وطننا العربي؟

وتشير هذه الأسئلة إلى أن التغيير سيحدث قريبًا. لذا، استعد للعديد من التغييرات التي ستحدث في مجال التعليم فيما يخص بتطوير المناهج الدراسية المدرسية. 

 

0